"خلود الأدب، وفناء الشعور"
- Rawan
- Jun 22
- 2 min read
Updated: 4 days ago

هل تفشل اللغة في إعادة خلق المشاعر؟
هل هناك مدى شعوري لا تبلغه الكلمات، ولا حتى تلامسه بخجل؟
هل هناك وجعٌ لا تسعه اللغة، ولا تحتمله الحروف؟
هنا، في المسافة التي تعجز فيها اللغة، يتسلّل الأدب ببطءٍ، كاختراعٍ بشري لمقاومة العجز أمام ما لا يُقال. فالأدب ليس مجرد محاولة لتسمية ما نشعر به، بل هو طقسٌ قديم، ونداءٌ غامض نسعى من خلاله إلى تخليد التجربة الإنسانية، إلى رسم ملامح المشاعر، وتوصيف مذاقها، لونها، ثقلها، وطغيانها..
إنه محاولتنا البائسة لترميم اللحظة بعدما تفسدها الحياة، لإمساك ظلّ الحزن قبل أن يتبخّر في هواء النسيان، هو وهمُ الخلود الذي نمنحه لمشاعر نعرف أنها زائلة، مقاومةٌ صامتة ضد زحف النسيان، وعصيانٌ حزين على فناءٍ لا مهرب منه.
عبر آلاف السنين، من الملاحم الأولى إلى التدوينات المتعثرة في منتصف الليل، ورغم اختلاف اللغات واللهجات، وتبدّل الأزمنة والخرائط والوجوه، أجمع الأدب أن المشاعر تمتلك كينونة واحدة، نَفَسًا مشتركًا، وتوقًا قديمًا يربط الإنسان بالإنسان مهما تباعدت المسافات.. إنها التجربة الجمعية التي تتجاوز حدود الفرد، وتتخطى اللحظة العابرة، وتتشبث بشيء أعمق، بشيء يشبه الذاكرة الكونية ... تلك التي لا تُقال، ولكن تُشعَر. معلّقة على أرفف المكتبات حول العالم، أو مطويّة في دفاتر لم تُفتح منذ سنين، هناك كلمات كُتبت لأشخاصٍ لم تصلهم أبدًا، رسائل لم تُقرأ، وحروف لم تُدرك.. نصوص تنبض بلحظات مفصلية في لعبة الوجود: الحياة، الموت، الحب، الخوف.. كلها اختبارات تعيد تعريف ما يعنيه أن نكون بشراً.
تقاطعت فيها التجربة الإنسانية مع المصير، وتقلّب فيها الإنسان على حافة الإدراك بين الخوف والحنين، بين الحياة كما نعيشها والموت كما نخشاه، وبين الحب كاحتمال، والخسارة كيقين.
ورغم المسافات، ورغم الحدود الكونية، ورغم الغياب الحتمي، ما زالت الكلمات تُوحّد التجربة، تعبّر عنها، تفسّرها، أو تحاول على الأقل أن تمنحها شبحاً يشبهها..نعم، تعجز اللغة عن استنساخ الشعور كما هو.. لكنها تمنحنا مساحة لفهمه، للاعتراف به، لمشاركته، ولو كان جزئيًا أو مبهمًا. والأجمل من كل هذا هو إدراكنا الجمعي .. لخلودية الجمال، فالكلمة تبقى حين يذبل الصوت، والحرف يبقى حين تتهاوى الذاكرة، والأدب يبقى حتى بعد أن يُنسى الكاتب ويغيب القارئ.. يبقى النص شاهدًا صامتًا على لحظة صدق، على شعورٍ مرّ من هنا، على قلبٍ كان يكتب وكأنه يصلي .. يبقى الفن حين تُغلق الأبواب، حين يتفرق الناس، يبقى كوثيقة وجود، كأثرٍ لا يراه إلا من يحمل نفس الوجع، أو نفس الحنين..
الأدب وحده، حين نرحل إلى الغياب، يلتقط خيط الحكاية من بين أنقاضنا، ويواصل السرد.. وما عجزنا عن قوله، تنطقه القصائد بصوتٍ أبعد من صوتنا
وأصدق من نسياننا.