نَحْن وطواحين اَلْهَواء
- Rawan
- Mar 16, 2024
- 5 min read
Updated: May 21

في الشفق الهادئ لوحدتي، أجد الشجاعة المزيفة لخلق هذه الكلمات من العدم؛ كإعترافٍ ضمني بالفيضانات الداخلية التي تناقض سكينة المظهر، أداءٌ لا يشهده إلا الليل في أحضانه الصامتة، وشجاعة مُفتعلة في فراغٍ زائل؛ لأن الكلمات ستجد كل الطرق… إلا لمن خُلقت له… ليقرأها.
هذا الألم، الرفيق الوفي، الذي زرع نفسه في سفح كل تجاربي الإنسانية، والذي شيد الاستعدادية القصوى لكل احتمالات الفزع، كان وفيًا... وفيًا جدًا، فلم يفارق كتفي، ولم يبدّله أي إيمان أو أمل... كحقيقة الموت المُسلّمة.
كان لغزًا محيرًا في طفولتي. فكانت القصص تتشكل ككوابيس غير مفهومة، فنركض حتى نلمس حدود الهلع ونعود، لكن دائمًا ما كنا نعود..
في الصيف، امتهنّا مطاردة نهر غوادالكيفير، وقطف العنب، والعيش في ظل مغامرات دون كيخوته. الحياة كانت تمضي بتأنٍ لنأكل كل ما نريد، وننام لآلاف السنين… كل يوم يبدأ بأشعة الشمس الأولى التي تتسلل عبر النوافذ، وتُلقي بأنماط من الضوء والظل تتراقص عبر بلاط الطين. كانت فترات ما بعد الظهيرة مخصصة للقيلولة، وهو تقليدٌ مقدّس يستحق احترام الشمس عندما تبلغ ذروتها وتُغلف كل شيء بدفئها الناعس. تهدأ الشوارع للحظات، كما لو أن الأرض نفسها توقفت لتلتقط أنفاسها. لكن الهدوء كان مجرد فترة فاصلة للأمسيات المفعمة بالحيوية التي تلي ذلك، حيث تعود الشوارع إلى الحياة، مليئة بأصوات الضحك والثرثرة وتصفيق راقصي الفلامنكو. تشكلت كل ذكرياتنا في الشواطئ والرمال والجبال، جنبًا إلى جنب، غامرنا في كل ركنٍ خفي، شربنا ماء المحيط الأطلسي، وجمعنا كنوز الأصداف البحرية، طاردنا كل غيمة، وكل قمر، ومجرة. ضحكنا وبكينا معًا، في كل يوم.
في السنوات اللاحقة، أصبحت أرى في عينيك، اللتين تحملان مجرات السماء، ألمًا لم أُميزه. في صمت، كنت ترتدي كل كدماتك، كل صرخة ابتُلعت تمامًا قبل نشأتها في جدران منزلك، الذي كان ينبغي أن يكون مساحة أمان، فتحوّل شيئًا فشيئًا إلى ساحة قتال. أعطيت كل شيء، وسُلب منك كل شيء. شهدت فيك موت الطفولة قتلاً، ونهاية تهويدة الأحلام.
ثم تكبُر المسافات... تبدأ راحة المألوف في الاندثار، الروابط التي كانت تجمعنا ذات يوم تمتد فتصبح رقيقة، ثم تنقطع، ثم تختفي... وتترك مساحة خاوية.
ألم النضوج هو فقدان ما كان مألوفا. هذا الألم هو ما دفعنا إلى اتجاهٍ واحد، نحو المنتصف، من قطبين متعاكسين؛ إلى اللقاء المقدّر، الذي كان يفصله جدارٌ تلاشى، حتى نلتقي مجددًا، لنتفق ضمنيًا على أحقية الألم بممارسة استبداده الطاغي، ولنبدأ معًا نشوة الوعود والإمكانيات.
في جوف الارتياب، كنتَ أنت المسلّمة، أنت الأكيد بين الشكوك، أنت الشروق المؤكد لوعد الغد.
وجدنا في بعضنا ما أخذته الحياة قسرًا. في انفصامك الكلي عن الألم وكبته داخليًا، وجدت أملًا مزيفًا بأن من الممكن والمحتمل أن تكون الناجي الوحيد من حطام السفينة، وأن العواصف العبثية قد مرّت من فوقك وليس من خلالك، وأنه لا يزال هناك أمل، بحجم ذري لكنه موجود… بإمكانية تحقيق أحلام الطفولة، ومطاردة النجوم والكواكب مجددًا. وأن الإنسان له القدرة على كبت الظلام الداخلي، واختيار الخير، وألا يتحول لوحش شرس، حتى لو عاش بقفصٍ للوحوش.
كنتَ تقول لي دائمًا أن حياتك تُقاس بقبلي وبعدي، وأن الوقت فيما بينهما لا يهم ولا يُحتسب، وأن الحياة تُقاس باللحظات التي كنّا معًا. وأن الزمن هو عامل بيولوجي عابر ورمزي كليًا، وأن الطفولة هي المرحلة التي تحدث فيها الحياة فعليًا، فتحدث مرة واحدة، وكل ما نعيشه بعد ذلك هو إعادة لبعض الأحلام التي نتعطّش لنكون جزءًا ذريًا منها.
كنت أصدّق ذلك. كانت الحياة، من شدّة مفاجآتها، تُشعرك بالانسلاخ التام من الآنية… فتنفصل تمامًا عن جسدك الفيزيائي، فتستوعب بعد فوات الأوان أن لا شيء في دائرة تحكمك، وأن الأشياء تحدث بعبثية مُرعبة… بلا معنى.
كنت أتمنى، وأنا أنظر إليك، أن الحياة انتهت في بدايتها، عند الشواطئ والرمال، وأن تُسدل الستارة في منتصف العرض، في أوج السعادة حين كانت الحياة ملتفّة مثل بتلات زهرة اللوز في أوائل الربيع.
كنتُ أحب من تكون أمام الناس، وانعكاسك الذي أراه في أعينهم. أحب أن أرى رغبتهم غير المُعلنة بشيء لن يملكونه أبدًا. وأقدّس انهزامك الكلي من السجية والطبع أمامي… كالطفل تبكي، كالشيطان تغضب، كالأم تُحب.
كنتَ المأوى، والمرسى في اضطرابات المحيط، تحمل ثقل كل الدموع التي لم تُذرف بعد، وتشاركني بكل سخاء كل سعادة، أنت وحدك الذي تعمّقت في الظلام الذي يسكنني، لأنك ترى شيئًا تألفه… وتعرفه كما تعرف نفسك منذ الطفولة. كنت جزءًا لا يتجزأ من كل شيء: من خصل شعري… حتى قصص الجروح والندوب، أعظم مخاوفي وأحلامي، تهويدة جدتي، مذكراتي، والفراغ المرعب، وقلقي، وخوفي غير المُبرر.
بعد مرور السنين، أصبحت عاجزة عن رأب الصدع والمسافة التي خُلقت بيني وبينك. نورك يخفت، في الظل يتلاشى… وأقف متفرجة، عاجزة، عن وقف التحول إلى شخصٍ لم أعد أعرفه. الزمان والمكان همّش من كنتَ، فأصبحتَ كومة من الكُره والغضب… والسطحية المرعبة. أخذت هذه العملية سنين عدة من الحزن والخيبات المتتالية التي شهدتها معك منذ صغرنا.
غضب أبيك المُرعب… لامبالاة أمك وبُعدها المشاعري… كانت شخصًا خاليًا من كل شيء. كانت حيّة لكن شبه معدومة الوجود. لن أنسى تفاعلها الاجتماعي عند احتضانك، أو انكماشها الكلي عند التماس جسدها بجسد أحد من إخوتك. لن أنسى فورات غضب أبيك… بكاء أخيك الهستيري… لن أنسى موت حصانك الأول وردّة فعل أبيك. لن أنسى تمامًا ما تمنيته حينها… سقوط عالمك كليًا في ١٨ خريفًا، بجهلٍ من والديك. لن أنسى أنهم لم يُخبروك عن مرض جدك أو حتى موته. لن أنسى أنك لم تودّعه، رغم أنك وعدته بذلك. لن أنسى توبيخه لك بعد لعبك لأن ضجيج وجودك وسعادتك كان يُفسد له أمسيته. لن أنسى هروبك الليلي الذي أصبح عادة لا تثير أي ذرة قلق. لن أنسى تغيّبهم الكلي عن كل إنجاز معنوي وذاتي… عن كل التفاعلات الاجتماعية المهمة في حياتك كإنسان. لن أنسى تخرجك وحدك وخيبة أملك، لأن لم يكن أحد هناك ليصفق لك يومًا.
خلقوا بداخلك ثقبًا أسود يبتلع كل شيء. لا تُشبعه كل ماديات الحياة، ولا تسكن ألمه كل المغيبات العقلية. أحيانًا، الطفولة تموت قَتلًا… والوحش يكبر بداخلنا ليأكل كل ما وعدنا أنفسنا ألّا نكونه… فنكونه، وأشد وحشية أحيانًا. لا زلت أؤمن، كما أؤمن بحقيقة شروق الشمس، أن في كينونتك شيئًا ما… شخصًا ما… فكرة ما تريد أن تعيش حياةً أخرى. وأن الطفولة هي امتداد قهري لمن نكون، وأنك أنت، لا زلت ذات الشخص الذي أحببته دائمًا.
كل ما أستطيع التفكير به الآن هو دون كيخوته… رجل خارج الزمن، يتصارع مع الوحوش التي خلقها لنفسه. مثلُه، نشأنا مسلّحين بالسذاجة والمثالية، انطلقنا في مساعينا وقلوبنا مشتعلة بالرغبة في تصحيح أخطاء العالم، وخلق حياة ذات أهمية. ومع الوقت، كالغبار على الكتب المنسية، نجد أنفسنا في مواجهة الحقيقة القاسية المتمثلة في أن الحياة ليست الملحمة الكبرى التي تصورناها، وبدلًا من ذلك، هي عبارة عن نسيج معقد من اللحظات الصغيرة: من الأفراح، والأحزان، والانتصارات، والهزائم… وغالبًا ما تكون خالية من الوضوح والنشوة الموجودة في صفحات القصة.
إن الحزن الذي يصاحب هذه التأملات، ليس مجرد رثاء للأحلام التي لم تتحقق، بل حزنٌ على فقدان تلك الاحتمالات، والإيمان الذي لا يتزعزع بإمكانية تحقيق المستحيل.
مثل دون كيخوته، نحن أيضًا نُطارد العمالقة، لنكتشف أنهم مجرد طواحين هواء، أشرعتهم تدور بلا مبالاة في مهب الريح.
المعارك التي خضناها، بحماسة كبيرة، وغالبًا ضد صعاب لا يمكن التغلب عليها، تبدو الآن خيالية وبلا معنى. وهذا الإدراك يحمل في طياته حزنًا أعمق: فهم أن جوهر الحياة، وجمالها، ومأساتها، يكمن في هذا الصراع بذاته.
ومع ذلك، في هذا التأمل، هناك عزاءٌ معين، يمكن العثور عليه في صحبة دون كيخوته: المتفائل الأبدي، الحالم، الذي على الرغم من السخرية والهزيمة، ظل ثابتًا في سعيه. ربما هناك نُبل في السعي ذاته، في رفض الاستسلام للسخرية واليأس. ربما الحكمة الأعظم تكمن في احتضان الحياة كليًا، ليس كما أردناها، ولكن كما هي.
أُصلّي دائمًا أن يكون كل العمالقة مجرد طواحين هواء، وأن لا تنسى الصيف الأبدي الذي أمضيناه في مطاردة نهر غوادالكيفير، وقطف العنب، وجمال كاتدرائية إشبيلية، والمساحات الخضراء، وانعكاس الشمس في عينيك، والتسلّل إلى الحدائق… وأن في قلبي مغفرة لك، لم ولن تعرف سواك، وحُبًا لن يزول، حتى تحترق النجوم، وتفنى العوالم.
أُصلّي أن تعيش دائمًا في ظل مغامرات دون كيخوته، وأن تشرق الشمس مجددًا في داخلك، وأن تتذكر ما قاله دائمًا: أن لا الخير ولا الشر يمكن أن يدوم إلى الأبد؛ وبما أن الشر قد استمر لفترة طويلة، فإن الخير يجب أن يكون الآن في متناول اليدين.