top of page
Sky

مرثية النخّلة

  • Writer: Rawan
    Rawan
  • Mar 1, 2024
  • 3 min read

Updated: Oct 31


ree

في السابع عشر من نوفمبر عام 2023، فقد العالم نورك، وفقدتُ أنا فرصة توديعك بهدوء إلى المجهول العظيم.

رحلتَ دون عناقٍ أخير، دون كلمات وداع، دون لحظة إنسانية أطمئن فيها على رحلتك إلى ما وراء الغياب. في رحيلك المفاجئ والسريع تردّد صدى فراغٍ عميق، وألمٍ صامتٍ لا يرحم، يُلحّ في الذاكرة وفي القلب معًا، تتزاحم الأفكار حول كل ما لم يُفعل، وكل ما لم يُقال. كل ذكرياتك تنساب أمامي كأنها نسيج من الدفء والكرم العميق الذي شكّل جوهرك، طهوك في كل اجتماع عائلي لم يكن مجرد طعام، بل كان دفئًا أموميًا متجسدًا في النكهة واللمسة والاهتمام. أصبح حضورك مرادفًا لتجمعاتنا، كأن مائدتك كانت مركز عالمنا الذي ندور حوله.

هناك، في ذلك البيت المغمور بالضحك، كان نسيج العائلة يلتفّ بالحوار والمودة ومرح الأطفال وهم يطاردون النحل الذي لم يغب يومًا عن الحديقة الخلفية.


عندما أتأمل صور شبابك المفقودة، والقصص التي تُروى عن الزمن الذي وُجد ذات يوم قبل أن تبدأ خيوط الانحدار العقلي بنسج نمطها الكئيب، أشعر بتباينٍ صارخ بين من كنتِ عليه، ومن أصبحتِ في السنين اللاحقة.

رُويت عنكِ قصص كثيرة، عن حيواتٍ متعددة وتجارب واسعة كالمحيط، عن روحٍ لا تعرف السكون، وحضورٍ يملأ المكان بالثقة والكرم والحياة.

كنتِ تُصوَّرين دومًا كنخلة عائلتنا — ثابتة الجذر، تمتد نحو الشمس، تظللنا جميعًا وتربطنا بأرضٍ من دفء وحنين.


كان رحيلك المفاجئ فكرةً مؤجَّلة، لم يستطع عقلي تقبّلها تمامًا، ولا حتى قبول احتماليتها العالية.

في الشهر الذي سبق يومك الأخير، كان صوتك مشوبًا بخوفٍ صادق — كأنه بشارة خافتة بالنهاية التي شعرتِ بقربها، ونحن — بسذاجةٍ مكسوّة بالرجاء — استخففنا بها.

ثم حين هبط المرض بقسوته، جاء انحدارك سريعًا وحادًّا، إلى درجةٍ تجاوزت الفهم والاستيعاب، كل شيء حدث على نحوٍ لم يمنحنا وقتًا للوداع، كأن الزمن نفسه تعجّل الفقد.


عندما جئتُ لأراكِ، كان بيننا حاجزٌ أقوى من الجدران، يمنعني من الوصول إليك.القدر، في تصميمه الغامض، حرمني من ذلك اللقاء الأخير؛ والجدران — العقيمة، اللامبالية — وقفت شاهدةً صامتةً على شوقي غير المحقَّق للوداع.

ترك هذا الغياب بلا ختام فجوةً عميقة ومؤلمة، كجرحٍ لا يجد طريقه للانطفاء، رحيلك المفاجئ والسريع جاء بإدراكٍ مؤلم: أن كلماتنا الأخيرة، وابتساماتنا التي تبادلناها دون وعي، كانت وداعنا الحقيقي، وقد مضى في زمنٍ يبدو الآن بعيدًا جدًا.


في أعمق أمنياتي الطفولية، كنتُ أؤمن أن الله سيمنحك الراحة والشفاء، وأن انعكاسًا يشبه المعجزة سيحدث — أن الحياة ستعيدك إلينا بلطفٍ غير متوقَّع، وأنكِ ستجدين العزاء من جديد في أحضانها الرحيمة، تمنّيتُ أن تتلاشى الحياة منك بهدوءٍ لاحق، في وهج الشيخوخة الذهبي، لا في الحُضن البارد للملاءات المعقَّمة.

كنتُ أحلم أن تكوني هناك — وسط الضحك والفرح في تجمعٍ عائلي أخير، في الأعياد، وفي الأفراح، وحتى في الأحزان — حيث الحياة لا تنتهي، بل تتحوّل إلى ذكرى دافئة نلجأ لظلّها كلما اشتدّ الحنين.


في تلك الغرفة الهادئة، حيث وضعوكِ قبل رحلتك الأخيرة، انحنيتُ لأطبع قبلةً رقيقة — عهدًا صامتًا للحياة التي لم تُتح لكِ أن تكمليها.

كنتِ هناك، ممدّدةً، شاحبةً وساكنة، في تناقضٍ صارخ مع الروح النابضة بالحياة التي كنتِ تجسّدينها يومًا.

كان جسدك، وقد خلا من دفء روحك، يثير شعورًا مُرعبًا بالمسافة، كأنه وعاءٌ فارغ كان يفيض يومًا بالحياة والحب.


تخيّلتُ رحيلكِ رحلةً — عبورًا هادئًا عبر بُستانٍ لا نهائي من أشجار النخيل، يقودك إلى لقاء من سبقوكِ بالمحبّة والطمأنينة. هناك، في ذلك الامتداد الأثيري البعيد، أراكِ تتحرّرين من الخوف، ومن أثقال العذاب الدنيوي.

أتساءل: هل يزيّن وجهكِ الآن ابتسامةٌ صافية، خفيفة، لم تمسّها أحزان العالم ولا همومه؟وهل وجدتِ هناك — في ذلك الملاذ الهادئ — السكينة التي نسعى جميعًا إليها؟ ذلك الهدوء الذي يفلت منا في هذا العالم المضطرب، كطيفٍ نلاحقه ولا نُدركه؟


هل وجدتِ الأخت التي اشتقتِ إليها؟

تلك التي حملتِ ذكراها قريبًا منك، منارةً من الحب والدفء في قلبك؟هل هي هناك — في ذلك المكان الذي يتجاوز كل الأمكنة الحسية — بذراعيها المفتوحتين في احتضانٍ طال انتظاره؟

أتخيّلكما معًا، في لمّ شملٍ تغمره الفرحة والدموع، لقاءٍ يتخطّى حدود الحياة والموت.. تنتابني أفكار هذا اللقاء في عالمٍ لا دموع فيه ولا ألم، سوى ظلٍّ متناسي يمرّ كهمسة بعيدة..تجلب تلك الصورة عزاءً ممزوجًا بمرارةٍ هادئة، كأملٍ خافتٍ لكنه مُلحّ — أملٍ ضروري، لأنه ببساطة… لا يوجد تفسير آخر.


المرور بجانب غرفتك يُحقّق فرضيّة غيابك الأبدي، يجعل كلَّ خطوةٍ أثقل، وكلَّ نفسٍ أضيق.

المكان الذي كان يتردّد فيه ضحككِ، وقصصك، ودفؤك، وخوفك، ونوبات رهابك وهلعك —أضحى الآن ساكنًا في صمتٍ عميق.

حتى الهواء المحيط بغرفتك يبدو خاليًا من الجوهر، منزوع المعنى، كأنه فقد ذاكرته معك..أجاهد لأفهم الحقيقة الحتمية لرحيلك، الحقيقة الصارمة أنك… ذهبتِ حقًّا.


العالم يستمر في الدوران، غيرَ مبالٍ بالفراغ الشاسع الذي خلّفه غيابك في حياتي، وفي نسيج كياني..

كل شيء يمضي كما لو أن شيئًا لم يحدث، بينما داخلي ما زال يفتقد اتزانه.


سأتذكّرك دائمًا — كرمك الذي لم يعرف حدودًا، وكيف كنتِ تمنحين من نفسك بسخاءٍ نادر، ولطفك الذي لامس حياة الآخرين بطرقٍ لم تُدركيها يومًا.

bottom of page